حباً في الموصل وأهلها جاء هذا العمل.
نينوى، هذه المدينة العظيمة، قبلة الرحالة والمؤرخين، عاصمة الآشوريين وموئل مجد ملوكهم كآشور بانيبال الثاني وسنحاريب، لم يكن سقوطها وخرابها نهاية لحضارتها، بل نهضت وعادت حاضرة عامرة غنية حتى بالأسماء، فهي الحصن العبوري، نوأردشير، الحدباء، الفيحاء، الخضراء وهي أم الربيعين.
جاء في (تاريخ الموصل) إن الموصل قبل الفتح الإسلامي كانت بها محلتان يسكن إحداها الفرس والأخرى النصارى الجرامقة. على الضفة اليمنى لدجلة بنى الراهب مار إيشوعياب برقوسري ديراً سنة 570 م هو اليوم كنيسة مار إشعيا. ثم صارت بعد الفتح الاسلامي قاعدة للفتوحات وكثرت فيها المساجد إلى جانب الكنائس.
عاشت المدينة وأهلها أيامًا عصيبة لأربعة قرون من حكم العثمانيين، اِضطهادات ومجاعات وويلات لا حصر لها، حتى قيام الدولة العراقية 1920 فعادت وازدهرت لتصبح ثاني أكبر مدن العراق، يسكنها زهاء مليوني إنسان، وعمرت وزادت شهرتها بالصناعة والتجارة والعلم والأدب والثقافة، لاسيما بجامعتها الرصينة، فعاش أهلها متآخين متضامنين.
لكن عام 2003 كان فاصلًا في حياة مسيحيي الموصل وشكّل منعطفًا خطيرًا، كثرت بعده المضايقات والتهديدات وبدأنا نسمع بالخطف والفدية وحتى القتل، فغادر بعضهم مضطراً للحفاظ على حياته وحياة أفراد أسرته، وصمد كثيرون أمام هذه الظروف القاسية متشبثين بالأمل. ثم وقعت الفاجعة الكبرى في 10 حزيران 2014 يوم غزت غربان داعش الموصل، ثم خيروا المسيحيين بين الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو مغادرة المدينة، خلال مهلة أمدها ثلاثة أيام. وبهذا اضطروهم إلى الهرب، تاركين كل ما تعبوا فيه سنين طويلة، للنجاة بأنفسهم وديانتهم، هائمين على وجوههم قاصدين قرى سهل نينوى، التي فروا منها تالياً إثر هجوم داعشي مجرم، مع الألوف المؤلفة من ساكني تلك البلدات والقرى. لاحقًا، غادر من أولئك النازحين عدد غير يسير مهاجرين إلى أقطار العالم المختلفة من أوربا إلى الأمريكتين وصولاً إلى أستراليا، فضلاً عن أعداد أخرى مازالت تنتظر في الأردن ولبنان وتركيا. وهكذا تفرق مسيحيو الموصل.
وقد يسأل سائل عن جدوى عمل كهذا؟ فأقول إني أحببت أن أسجل للموصل وأهلها الأصلاء، المسيحيين، تاريخاً تذكره الأجيال المتعاقبة، ليكون شاهداً على وجودهم عبر القرون ينطق بمآثرهم: علماً وحضارة وتقدماً. فجاء كتابي الأول (الأُسر المسيحية في الموصل) عام 2012, ثم اتبعته بالكتاب الثاني (الأصول والفروع) الماثل للطبع، ليعرف الجميع بأننا كنا هنا.. وسنعود يوما.
لذا، ولكي لا يضيع تاريخ مسيحيي الموصل ولا يُنسى ذكرهم وعملهم، وخشية أن يكون رحيلهم إلى غير رجعة، ولئلا يُمحى أثرهم بمرور السنون ولتيسير وصول المعلومة إلى طالبيها.. راقت لي فكرة تحويل معلومات الكتابين إلى تطبيق إلكتروني تفاعلي بإمكان الراغبين، أينما كانوا على وجه الكرة الرضية، أن ينهلوا من معلوماته، فضلا عن استطاعة أصحاب العلاقة أن يضيفوا ويطوروا المعلومات عن أُسرهم فيتسع الموضوع ويغتني وتعم الفائدة.
يطيب لي أن أشكر جميع الذين راسلوني مبدين إيضاحاتهم وتعليقاتهم بطريقة مهذّبة وأنيقة مقرونةً بالإشادة بالكتاب الأول، ولكل من قدم معلومة لإغناء الكتابين، والشكر موصول، مقدمًا، لكل من سيقدم مستقبلا أي ملاحظة أو معلومة ذات فائدة للجميع. وإن كان لي من فضل في تقديم هذا العمل فإني أهديه إلى روح زوجتي الراحلة ميري ججي وإلى أولادي سيرين، سالم، ستيلا، جورجينا وإلى الغائب الحاضر منهل.. وإلى إخوتي أبناء الموصل في كل بقاع الأرض. وأخيرا أود أن أشير إلى ما قاله كثيرون: أن لا خوف على المسيحيين إذا غادروا الموصل، إنما الخوف على الموصل بعد أن يغادرها المسيحيون..